كيفية إعداد الأطفال للحزن - د. محمود صبحي سعيد

كيفية إعداد الأطفال للحزن

 د. محمود صبحي سعيد


عندما يعاني أحد أفراد الأسرة من مرض عضال (كالسرطان)، فإن جميع أفرادها ينتظرون فترة صعبة، حيث غالبا ما يظل الأطفال في الظلام حول ما يحدث. يدير الكبار الأمر فيما بينهم في الواقع، دون أن يشارك الصغار في عملية التغيير هذه، التي تنطوي عليها خسارة المريض وآثاره. عندما يسمع أفراد الأسرة بخبر مرض أحدهم، فيشعرون بهول الموت وأن المكروه حتماً قد حل. إنه خبر مزلزل يهز كيان الأسرة بقوة ويحدث اختلالا كليا بالأنفس والعلاقات والمعاملات والأداء. وبظل كل ذلك من الضروري أن نكون مستعدين للإجابة عن جميع الأسئلة التي قد يطرحها الأطفال عن الموت. ولكن ما هي أفضل الطرق لشرح الفجيعة للأطفال؟ سنحاول الإجابة عن هذا السؤال.


معالجة الحداد-Dealing with grief في المراحل المختلفة من حياة الطفل

يحتاج الطفل دائما إلى الحقيقة والأصالة، لأنه قادر على فهم كل ما يحدث حوله حتى قبل الكبار. وذلك لأنه "يشعر" بما يحدث داخل الأسرة ويشعر حتماً بمناخ الحزن والألم الذي يحيط به. فإن تجنب شرح ما يحدث يؤدي إلى نتائج عكسية، لأنه يدفعه إلى إعطاء نفسه إجابات خاطئة في أغلب الأحيان، وفي كثير من الأحيان متمركزة فيه، لدرجة أنه ينتهي به الأمر إلى لوم نفسه على وفاة الأب أو الأم أو أي ممن يحبهم.

تعتمد الطريقة التي يعالج بها الطفل تجربة الحداد على عوامل مختلفة، بعضها ذاتي مثل شخصيته أو الرابطة العاطفية التي تربطه بالشخص المتوفى أو الذي على وشك الموت، والبعض الآخر موضوعي ويتعلق بالفئة العمرية. التي ينتمي إليها. فكما هو معلوم فإن موضوع الفهم عندهم يتعلق بعمره ومرحلة نضوجه عقليا ونفسيا. فالطفل حتى عمر 3 سنوات، لا يفهم مفهوم الموت-Concept of death، لكنه سيعاني من حالة الارتباك وربما الهيجان والحزن الذي يشعر به من حوله. في هذه الحالات، فالشيء الوحيد الذي يجب فعله، هو إظهار المزيد من المودة، من خلال الاحتضان والطمأنينة المستمرة. فعلى الكبار الحضور بأنفسهم كليا مع الطفل، بظل خفيف غير اقتحامي. فتواصل الكبير مع الطفل بارتباط عاطفي يشحنه بإيجابية ويشعره بالدعم والسند بقوة.

قل:

إني أحبك، أنت حبيبي، أنت عيوني، كم أحبك يا فلان.

لن أتركك أبداً، سأبقى معك وبخدمتك دائماً، سأفعل لك ما تحب.

لا تقل:

لا تخف، أنا سأكون بدل أمك أو أبوك، لا تقلق سيكون خيرا، اهتم بدراستك، اترك الأمر للكبار.

لا تفعل: أخطاء يجب تجنبها

وضع جدول أعمال محدد.

التحدث طوال الوقت.

عدم السماح بالصمت.

الإفراط في ذكر التفاصيل الطبية.

استخدام تعبيرات مثل "نام".

السماح:

للأطفال بالتعامل مع الموت بطريقتهم الخاصة

التزم بالروتين:

في حين أنه من المهم السماح للأطفال بالتعبير عن حزنهم بطريقتهم الخاصة، فإن الحفاظ على روتينك اليومي يمكن أن يساعد الأطفال على تعلم أن الموت جزء من الحياة، وأن الحياة تستمر.

 

يختبر الأطفال الموت من عمر 3 إلى 6 سنوات، كحدث مؤقت ويعتقدون أن الشخص المتوفى سيعود عاجلاً أم آجلاً. أي لا ثبات لمفهوم الموت في هذه المرحلة. لكنهم يشعرون بالألم والمعاناة بسبب الخسارة، وخاصة في سن 5-6، ويطرحون العديد من الأسئلة عن موضوع الموت، والتي يُنصح دائمًا إعطاء الإجابات بشكل واقعي ومتماسك.

ونلحظ أن الأطفال من 6 إلى 8 سنوات، يصبح الموت تجربة أكثر واقعية ونهائية، ويظهر الأطفال اهتمامًا بالطقوس المتبعة مثل الجنازات والدفن وعادات الحداد، لكنهم غير قادرين على توجيه مشاعرهم بشكل صحيح، مما قد يؤدي إلى السلوك العدواني والإحباط والغضب.

أما الأطفال من 8 إلى 11 سنة، يتم تفسير الموت على أنه اضطراب و انقطاع في الوظائف الحيوية، أي سوف تتغير الأشياء أو الأعمال لأن فلانا غير موجود وهو الذي كان يقيم عليها، لكن الأطفال ما زالوا لا يعرفون كيفية تفسير ما يشعرون به، وإظهاره من خلال المواقف التراجعية والعدوانية تجاه الأصدقاء والعائلة.

بعد سن 11 عامًا، تصبح عملية الحداد أكثر نضجًا ووعيًا، إلا أن المشكلات المتعلقة بإدارة العواطف تظل قائمة، والتي تهم البالغين أيضًا، وصعوبة توصيل الحالة الذهنية بطريقة هادئة وتشاركية.


كيف تتحدث مع الأطفال عن الموت

لا توجد طريقة موحدة وصالحة عالمياً للتعامل مع موضوع الموت مع الأطفال، بل هناك قناة اتصال محددة لكل أسرة، لا يعرفها بعمق إلا من هم جزء منها (الآباء والأجداد والأخوة والأخوات). الواقع الجديد يجب أن يبنى خطوة بخطوة مع الطفل، من خلال مسار يتبع عصره. "لا يوجد تواصل صحيح أو خاطئ، هناك تواصل صحيح فيما يتعلق بهذا الطفل بعينه وهذا الموقف" . ومع ذلك، هناك بعض المؤشرات العامة التي تساعد الطفل على الحداد على شخص عزيز عليه وتفسير الموت على أنه حدث طبيعي يشكل جزءًا من دورة حياة كل منا. نجمع بعض النصائح المفيدة للتعامل مع هذه اللحظة الحساسة.

إن الحديث عن الموت أمر صعب للغاية - بغض النظر عن عمر الطفل الذي نبلغه أو نتحدث معه أو نرافقه في مثل هذه اللحظة. فمن المؤكد أنه على مراحل مختلفة من التطور سوف تبدو مختلفة.

عادة ما يشعر البالغون بالقلق بشأن ما سيشعر به الطفل ومدى التأثير السلبي للمعرفة عن الموت. فيتجنبون مثل هذه المحادثات، ويفكرون أنهم "يحمون" الطفل من الشعور بالخوف أو الألم أو الحزن أو الشوق إلى الشخص الميت. في الوقت نفسه، يكون هذا السلوك مصحوبًا بالتفكير في أنهم كبالغين سيحافظون على الطفل من الانهيار وتدهور الحالة المزاجية. هذا أمر خاطئ تماما، وفي الحقيقة أنه يحمي الآباء أنفسهم، خوفًا من عدم قدرتهم على التعامل مع ثقل الحديث عن الموت، والأسئلة التي قد يتعين عليهم الإجابة عنها لأطفالهم. فهم لا يريدون هذه المواقف ويشككون باستطاعتهم الإجابة عنها.  إذاً يتجنب الكبار مثل هذه المحادثات، فلذلك يحاولون تشتيت انتباه الطفل عن الموضوع. فالمهم هنا ذكره، أن الأطفال لديهم إحساس كامل بالموقف والعواطف والمخاوف الموجودة والحاضرة في بيتهم.


موضوع الموت

يعرف الأطفال بالفعل موضوع الموت، لأنهم يسمعون عنه في الأفلام، وفي الأغاني، وفي المحادثات بين الوالدين، وغالبًا ما يكون لديهم بالفعل تجارب مباشرة، على سبيل المثال بعد وفاة حيوان أليف. المشكلة إذن ليست في طرح الموضوع، بل في تقديمه بطريقة صريحة وصادقة، ربما البدء من خسارة حدثت بالفعل لإعادة الاتصال بتلك اللحظة وشرح الحدث بالطريقة نفسها. ومن الأفضل تجنب التفسيرات المفرطة في التبسيط، والتي يمكن أن تخلق الارتباك والمخاوف التي لا أساس لها. إليكم قصة عن أم إيطالية كيف شرحت هذه الأم بشكل فعَّال وفاة والدها لابنها:

صبي يبلغ من العمر أربع سنوات فقد جده، وكيف أخبرته أمه من خلال قصة مرتبطة بالنجوم. فقالت: "إن أبي سيصبح نجماً، شيئاً مرئياً دائماً، موجوداً ويمكن لك أن تنظر إليه. أخبرته أن والدها مريض وأنه لن يتعافى، موضحة أنه مصاب بمرض لا يستطيع التعافي منه. في هذا يجب شرح المرض بطريقة حساسة ويجب القيام به حتى لا يعتقد الطفل أنه إذا كان عضو آخر وأحد أفراد الأسرة قد يصاب بمرض ما سيلاقي الشيء نفسه. والآن، عندما يفتقد هذا الطفل جده، يطلب من والدته أن ينظروا إلى النجوم، وقد اشتروا تلسكوبًا لهذا الغرض تحديدًا. بهذا قد أوجدت الأم لطفلها نقطة مرجعية محسوسة تجسد الحدث وتخفف وقعه على نفسه.


النصيحة هي: الاستماع، أكثر من الحديث

يحتاج الأطفال إلى معرفة أنهم يستطيعون التعبير عن أنفسهم بحرية مع والديهم، الذين هم على استعداد للاستماع إليهم والإجابة عن جميع أسئلتهم، دون الحكم على عواطفهم أو قمعها في حالة حدوث فاجعة في العائلة، بدلًا من التحدث، عليكم الاستماع والمرافقة. نطمئنكم أن الأمر أسهل بكثير مما تتخيلون، لأنهم يعرفون ما يريدون. في كثير من الأحيان، كل ما يتطلبه الأمر هو الاستماع بعناية إلى ما يفعلونه وما يختبرونه، وهم أنفسهم يوضحون الطريق. ومن الأمثلة الملموسة الشائعة على ذلك، هي المشاركة في الجنازات، حيث يقرر الوالدان عمومًا عدم إحضار الأطفال؛ وبدلاً من ذلك، فإن أفضل ما يمكنك فعله هو سؤالهم عما إذا كانوا يريدون المشاركة، ليشعروا بأنهم جزء من العائلة وأن تتاح لهم الفرصة لتوديع الأشخاص الذين أحبوهم.


التعبير عن مشاعرك

إن التعامل مع الموت أمر صعب على الوالدين كذلك، الذين بدورهم قد تربطهم علاقات عاطفية قوية جدًا مع الشخص الذي لم يعد موجودًا. الأفضل هو أن تترك ألمك يسطع أمام أطفالك أيضًا، لأن هذا يسمح لهم بفعل الشيء نفسه: البكاء ليس علامة ضعف، بل هو عرض لشيء يحزنك ويمكن أيضًا أن يشرِّع للأطفال أن يحزنوا. وأن يفعلوا الشيء نفسه.

في بعض الأحيان يمتنع الأطفال عن البكاء، لأنهم يرون أن والديهم لا يفعلون ذلك أبدًا. ومن ناحية أخرى، لا يريدون إعطاء أفكار، لكن كبح المشاعر أمر معقد بالنسبة للطفل، لأنه ليس لديهم أدوات أخرى مثل أدواتنا للتعبير عن أنفسهم بطريقة أخرى، على سبيل المثال من خلال اللفظ. لن يقول الطفل أبدًا إنه حزين، فهو لم يتعرف على الحزن بعد كالكبير، بل سيقول إنه غاضب.


فهم ردود أفعال الطفل على الحزن - Grief response 

يمكن للأطفال التعبير عن انزعاجهم المرتبط بالمعاناة بعدة طرق مختلفة: الغضب، والعدوان، ومشاكل الأكل والنوم-changes in eating or sleeping patterns، والنكوص- regression والتراجع.  الطفل الحزين يعبر بصور مختلفة وليس بالضرورة بالحزن، بل يمكن أن يرمي الأشياء، ويغضب، ويهتاج، لأنه يعبر عن حزنه بهذا الشكل. ولهذا السبب من المهم كبالغين أن يُنظر إليهم في التعبير عن المشاعر، بطرق جديدة لم نألفها، علينا التنبه والالتفات وحسن الاحتواء والصبر عليهم وحضنهم، ليكونوا قادرين على البكاء إذا احتاجوا لذلك. هذه هي مجرد بعض علامات الضيق- Signs of distress والأعراض التي تشير إلى وجود محتوى نفسي صعب عليهم كالفقدان. أفضل ما يمكن فعله هو عدم إلقاء اللوم على سلوكيات معينة، بل محاولة فهمها ووضعها في سياق الموقف والحالة الذي يمر بها الطفل، وذلك أيضًا بدعم من المعلمين والمجتمع الذي تم دمجه فيه. تذكروا، ليس بالضرورة أن تكون لديكم الإجابات. من المهم أن يستخدم البالغ مهارات الاستماع التأملي-reflective listening، وإذا كنتم لا تعرفون، فلا بأس أن تقولوا: "لا أعرف الإجابة، لكنني سأبذل قصارى جهدي لمعرفة ذلك".

كما نوصي الوالدين اللذين يصعب عليهما شرح الفجيعة للأطفال، (كونه ليس بالأمر السهل، خاصة إذا كان الوالدان يواجهان صعوبة في معالجة الحدث هم أولاً) بالتوجه لمراكز الصحة النفسية، التي تقدم الدعم النفسي الذي يستهدف الأطفال. 


       المراجع:

Luecken, L. J. (2008). Long-term consequences of parental death in childhood: psychological and physiological manifestations.

Luecken, L. J., & Roubinov, D. S. (2012). Pathways to lifespan health following childhood parental death. Social and personality psychology compass6(3), 243-257.

Meyer-Lee, C. B., Jackson, J. B., & Gutierrez, N. S. (2020). Long-term experiencing of parental death during childhood: A qualitative analysis. The Family Journal28(3), 247-256.


تلخيص واعداد

د. محمود صبحي سعيد

متخصص بعلم النفس العيادي والتربوي والصدمي

موقع الجليل للخدمات النفسية


الرابط: منسق للطباعة


https://algaleel.com/pics/250430111829.pdf